تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 240 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 240

240 : تفسير الصفحة رقم 240 من القرآن الكريم

** يَصَاحِبَيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ أَسْمَآءً سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم إنّ يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما, فقال: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه, ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو جهل منهم, وتسمية من تلقاء أنفسهم, تلقاها خلفهم عن سلفهم, وليس لذلك مستند من عند الله, ولهذا قال: {ما أنزل الله بها من سلطان} أي حجة ولا برهان, ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله, وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه, ثم قال تعالى: {ذلك الدين القيم} أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له, هو الدين المستقيم الذي أمر الله به, وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي فلهذا كان أكثرهم مشركين, {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}. وقد قال ابن جرير: إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا, لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما, فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها. فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة, وفي هذا الذي قاله نظر, لأنه قد وعدهما أولاً بتعبيرها, ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسبباً إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام, لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصات إليه, ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال:)

** يَصَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً وَأَمّا الاَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
يقول لهما {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمر} وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً, ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك, ولهذا أبهمه في قوله {وأما الاَخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً, ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه, وهو واقع لا محالة, لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت, وقال الثوري: عن عمارة بن القعقاع, عن إبراهيم عن عبد الله قال: لما قالا ما قالا وأخبرهما, قالا: ما رأينا شيئاً, فقال: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} ورواه محمد بن فضيل عن عمارة, عن إبراهيم, عن علقمة, عن ابن مسعود به, وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, وحاصله أن من تحلم بباطل, وفسره فإنه يلزم بتأويله, والله تعالى أعلم, وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر, فإذا عبرت وقعت» وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي, عن أنس مرفوعاً «الرؤيا لأول عابر».

** وَقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبّكَ فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج, قال له يوسف خفية عن الاَخر, والله أعلم ـ لئلا يشعره أنه المصلوب ـ قال له {اذكرني عند ربك} يقول: اذكر قصتي عند ربك, وهو الملك, فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك, وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن, هذا هو الصواب أن الضمير في قوله {فأنساه الشيطان ذكر ربه} عائد على الناجي, كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد. ويقال: إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضاً وعكرمة وغيرهم, وأسند ابن جرير ههنا حديثاً فقال: حدثنا ابن وكيع, حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس مرفوعاً, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لم يقل ـ يعني يوسف ـ الكلمة التي قال, ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله», وهذا الحديث ضعيف جداً, لأن سفيان بن وكيع ضعيف, وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه أيضاً. وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلاً عن كل منهما, وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن, والله أعلم.
وأما البضع فقال مجاهد وقتادة: هو ما بين الثلاث إلى التسع. وقال وهب بن منبه: مكث أيوب في البلاء سبعاً, ويوسف في السجن سبعاً, وعذب بختنصر سبعاً, وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {فلبث في السجن بضع سنين} قال: ثنتا عشرة سنة. وقال الضحاك: أربع عشرة سنة.